العنطزة

ملاحظة هامة: العنطزة هي مصطلح تركي يعني التكبر، ولطالما ارتبط التكبر بالبرجوازية، كما يرتبط فعل العنطزة عند الحمار بفعل الركل بالرجل في حال كان ممتعضا من امر ما مثل ذبابة عند الاذن

بقلم: عصام خوري

عجّت صفحات التواصل الاجتماعية السورية بداية شهر تموز ٢٠٢٠، بمقاربات وانتقادات لافته حول نزاع المدنية والريف وانعكاساتها على ما آلت له الأمور في سوريا، وكوني سوري، أرى من المفيد ان أقدم شهادتي المتواضعة بدون رتوش، وسأبدأ من مدينتي اللاذقية

اللاذقية واحدة من المدن الهامة في سوريا، رغم انها لم تكن يوما مدينة كبيرة، الا أن أسرة واحدة من سكان ريفها حكمت سوريا بقبضة من حديدية، وكرهت جميع السوريين بذكر كلمة اللاذقية، ومن لم يكره هذه المدينة من السوريين كان يخاف من سكانها، لان أي شخص من سكانها له بالحقيقية إمكانية التواصل مع أحد الضباط، مما يجعل إمكانية نفاذه في دوائر القرار السورية، أعلى من غيره من سكان المدن السورية الأخرى. ولكن هناك حقيقية يجهلها من لم يسكن في اللاذقية، فشعبها طيب جدا، ومضياف، ومحب لحد لافت، ولكنه أيضا شعب غريب بريفه ومدنه، لأنه ينظر بروح استعلائية على عموم سكان سوريا بغض النظر ان كانوا من الريف او المدينة، وهذا ليس خيال بل هو واقع. فمثلا ابن مدينة اللاذقية ينظر للحلبي أو الدمشقي الثري أو الفقير القادم للسياحة نحو البحر وشواطئ اللاذقية وطرطوس على انه متخلف، فالأخير مستعد للسباحة في البحر حتى ان كانت الساعة الثانية عصرا أي في ذروة حرارة الشمس، وبعد يوم واحد من السباحة تستطيع تميز ابن الداخل السوري عن ابن اللاذقية ببساطة، لكون وجه ابن الداخل أقرب لقفا السعدان “دلالة على احتراق وجههم” بينما ابن اللاذقية يكون اسمرا بشكل مقبول

أيضا الضباط العلويين الذين تعود اصولهم لريف اللاذقية، يصفون دولة لبنان بلقب الضيعة “القرية” ويسخرون من اللبنانيين، رغم ان عموم سكان سوريا كانوا ينظرون للبنان على انها أكثر تطورا عمرانيا من بلدهم، بالإضافة لكونها سوق عمل لأبنائهم

أيضا يمتاز سكان اللاذقية السنة بروح استعلائية على بعضهم البعض، فمثلا أبناء المدينة الأصليين، أو الذين يحملون في خانة تولدهم اسم اللاذقية، يظنون بأنهم أرقى من أهل ادلب السنّة الذين سكنوا قلب اللاذقية لأكثر من خمسين عاما، ويصفون أهالي ريف ادلب بلقب “الشريقية”، في دلالة على تخلفهم، رغم ان الحياة الاقتصادية للمدينة هي بيد سكان ريف ادلب، وتحديدا أهالي جسر الشغور

حي الاميركان، اللاذقية مقابل كنيسة مار مخائيل

أيضا سنّة المدينة ينظرون بنظرة استعلائية وتهكمية تجاه أهل الريف العلويين، ويضحكون على لهجتهم، رغم ان عموم سكان سوريا يسخرون من لهجة أبناء مدينة اللاذقية بسنّتها ومسيحيها، وأكبر مثال على لهجة أبناء اللاذقية هي مسلسل “ضيعة ضايعة”، اما أكبر مثال على لهجة أبناء الريف هي “عموم أفلام المخرج المدلل من مؤسسة السينما السورية عبد اللطيف عبد الحميد، بالإضافة لعلي الديك واخوته”. علوي الريف اللاذقية ينظرون أيضا بنظرة دونية لعموم سنة المدينة، ويتهمونهم بالبرجوازية، وكأن العلويين زعماء الاشتراكية في الكرة الارضية! والمضحك بالأمر ان أهالي الريف العلوي أكثر ثراء من أهل المدينة، اما المسيحيين فيصنفون أنفسهم على انهم أرقى الفئات الاجتماعية، وعزز نظرتهم لنفسهم تسمية أهل اللاذقية للحي الأكثر كثافة بالمسيحيين باسم الاميركيان، رغم ان اسم هذا الحي ضمن الدوائر الرسمية هو “حي المتنبي”، أيضا بين المسيحيين توجد تعصبات مناطقية، فمثلا مسيحي أهل لواء اسكندرون متقوقعين عل بعضهم، واسسوا مع عموم الطوائف الأخرى النازحة من لواء اسكندرونة جمعية اللواء، التي لا تقوم باي أنشطة تذكر، ولكنهم يدعمون بعضهم اكثر من دعمهم لباقي الفئات المسيحية الأخرى! ومسيحي قرية المزيرعة كانوا يصنفون أنفسهم بأنهم ذو أهمية كبرى، كون مطران الأرثوذكس السابق فرد منهم، والمضحك ان اغلب مسيحي اللاذقية الأرثوذكس لا يحبون المطران السابق ويتهمونه باللصوصية

قصر اسرة سعادة، تم تأميمه من قبل الدولة الاشتراكية في ظل محاربتها للبرجوازية! زمان حافظ الاسد

أشهر الاسر المسيحية البرجوازية كما يصنفونهم مسيحي اللاذقية هم عائلة مرقص وسعادة، وللأسف عددهم يتجاوز عدد أصابع اليد بشكل بسيط بعد تطفيش الاشتراكية لهم وتأميمها لممتلكاتهم، وللأمانة البعض منهم أكثر تواضعا من المسيحيين، المشهورين بعنطزتهم على باقي الفئات الاجتماعية في اللاذقية

أرمن اللاذقية ينظرون لباقي المسيحيين على انهم كسالى، وليسوا بسوية الأرمن.التركمان السنّة أيضا ينظرون لنفسهم بأنهم خلفاء الإمبراطورية العثمانية رغم ان اغلبهم من الريف الشمالي لسوريا المهمل إداريا، والمعاقب من السلطة السياسية التي تنظر للتركمان بأنهم أدوات انقلاب على السلطة، ومدسوسين من تركيا الدولة التي احتلت لواء اسكندورن. الأكراد أيضا في اللاذقية هم لا يتقنون الكوردية، ومع ذلك اسموا جبلهم باسم جبل الأكراد

بين العلويين أنفسهم تجد تفاوتات طبقية وعشائرية مخيفة، فمثلا العلويين الكلازية ينظرون بازدراء للعلويين الماخوس “الحديديين” ويصفونهم بأنهم بلا دين، اما العلويين الحيدريين فينظرون للكلازية على انهم أهل ريف جبلي وغير متمدنين بالشكل الكاف. الجيل الجديد من العلويين الكلازية والذين استوطنوا دمشق، يزورون اللاذقية للمتعة، وبعد التنصت لهم في المقاهي والحانات وتحديدا بعد شربهم لكأسين من العرق، ترونهم يتهكمون بكل سكان المحافظات الأخرى، ويقولون لا يوجد أجمل من اللاذقية، لكن علينا الالتزام بالعاصمة فهناك العمل والشعب الذي يحتاج ان نركبه “آسف لهذا الوصف ولكني حاولت تهذيب الفكرة قدر الإمكان، وهي مكررة عند الكثير من المسؤولين واولادهم واقاربهم”. وبين العشائر الكلازية، ترى خلافات عشائرية بين النميلاتية والحدادية والخياطة… يعني باختصار مشاكل العلويين العشائرية دفعت قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي لتخصيص جملة تعينات إدارية في المحافظة والبلديات وفي قيادة الفروع والمديريات لهدف إرضاء عموم العشائر، ومع ذلك يحدث امتعاض عند بعض العشائر العلوية، الامر الذي جعل مخصصات السنة والمسيحيين محدودة مقارنة بمناصب العلويين

وأجمل امر عند العلويين انهم يحترمون رؤساء الأفرع الأمنية والإدارية سواء أكانت سنية أو مسيحية، رغم يقينهم أن أي ضابط امن علوي بسيط يستطيع اقصاء أي ضابط امن سني او مسيحي كبير من منصبه! القيادات المسيحية بدورها تخدم الطائفتين السنية والعلوية أكثر من خدمتها للمسيحيين كي لا تتهم بالطائفية! وبدورها القيادات السنية تخدم العلويين الفقراء، ولا تخدم السنة بالشكل الكافي كي لا تتهم بالطائفية! وبما أن المسيحيين أكثر المعنطزين في اللاذقية، فهم لا يلجؤون لمساعدة رجال الدولة في التعينات والوساطات، رغم أن مسيحي اللاذقية هم بالحقيقية الافقر بين فئات المجتمع في اللاذقية

العلويين أيضا لا يحترمون أبناء الطائفة المرشدية رغم انها فئة منشقة عن العشائر العلوية، ولطالما نبّه العلوين ابناؤهم من مخالطة أبناء الطائفة المرشدية، فهم ينظرون لهم بأنهم ناكرين، ومرتدين عن الدين الأفضل في العالم وهو الدين العلوي، والمضحك بالأمر أن السنة ينظرون للديانة العلوية على انها بدعة، أما المسيحيين فهم ينظرون لكل فروع الإسلام على انها سياسة وليست رسالة من الله

طبعا نموذج اللاذقية هو مصغر بسيط عن عموم المدن السورية، وهو يطرح بالحقيقية معضلة رئيسية مفادها ان الجميع معنطز لكن بدرجات فالأمر لا يرتبط بالريف والمدينة وأفضلية أي منهما على الاخر، انما يرتبط بمفهوم ضمني مزروع بالفرد تم تأسيسيه في المدرسة وفي المنزل، وهذا الامر نراه في كثير من تفاصيل حياتنا الخاصة بعد ان تشردنا في اقصاع مختلفة من البسيطة

جانب من حي الميدان في دمشق

فترى ابن حي القصاع والمالكي الدمشقي يتحدث وكأنه ملك للكرة الأرضية، رغم ان بلده سوريا مكروه دوليا ومدمرة، وهو يتجاهل هذا الامر ويصف سوريا وكأنها دمشق الياسمين فقط، بدون ذكرهم لخيم البدو المنتشرة على أطراف المدن. كما ترى ابن حي الميدان الدمشقي يتكلم عن الميدان، وكأنها مصنع الرجال والابطال، متناسيا ان الميدان باتت اليوم مطبخا، والرجال فيها مهمتهم الرئيسية تدليل زوار حيهم بغية دفعهم لدخول مطاعمهم! الأمر ذاته يتكرر في الاحياء الراقية في حلب التي تجاهل سكانها في غمرة نشوتهم بالرقص الحلبي على أصوات اساتذة الطرب الأصيل في مقاهي الموغامبو والسبيل ونادي الجلاء، وجع ريفهم المحروم من الطرق الاسفلتية، والمدارس، وباتوا اليوم ينتقدون أهل ريفهم الذي انتفض بأكمله ضد السلطة التي جوعته، ويتهمون انتفاضتهم بانها عشوائية، والمضحك ان أهل حلب المدينة السنة هم أكثر من عارض الثورة السورية عام ٢٠١١

يساري المعارضة عنظروا على المعارضين الإسلاميين، واتهموهم بأنهم حرضوا العامة المتدينة لان تخرج من الجوامع، وكأن البلاد ممتلئة بالمراكز الثقافية التي تحرض المثقفين على الخروج باعتصامات واحتجاجات، وتناسوا أن أهم مكتبة في سوريا تحمل اسم مكتبة الأسد، وفي كل مدينة يوجد مشفى تحت اسم الأسد، وأهم مراكز التعليم الشرعية في كل المدن السورية تدى مدارس الأسد لتحفيظ القرآن! أيضا إسلامي المعارضة عنطزوا على العلمانيين وحاولوا توظيف بعضهم في مواقع شكلية كي يهيمنوا على الجسم المعارض، والمشكل أنهم ورغم خروجهم لخارج سوريا منذ الثمانينات، لم ينجحوا بتأسيس أي منبر اعلامي محترف لهم أو للسوريين، فما بالك بإدارة دولة

مكتبة الاسد، أضخم مكتبة بسوريا في دمشق العاصمة السورية

بشار الأسد بدوره، ورغم انه غير سياسي عنطز على شعبه، ومن لم يقتله أو يشرده طالبه بأن لا يكون رماديا، فقد قال لا مكان للرماديين منذ منتصف عام ٢٠١١، ومع ذلك جلب شخصيات غير سورية مستبدلا السود “المعارضين” والرماديين “الحياديين” من شعبه بعمامات عراقية ولبنانية وأفغان، وعندما عنطز عليه الشيعة، جلب الروس كي يعنطزوا عليه وعلى الشيعة! ورغم كل هذا الاذلال، استمر بعنطزته على السوريين “البيض” أو ما سماهم الموالين، ولما أفلس كل الشعب، بدأ بالعنطزة على اقاربه وفرض عليهم اتاوات، وعندما أفلس اقاربه، أغلق البلاد وقرر فرض اتاوة مالية على أي زائر لبلده، حتى وان كان ابن البلد، محققا مفهوم الاشتراكية العنطوزية “وتعني مشاركة الزائر لبلده بماله، أو سرقة ماله من الدولة بصيغة قانونية”!  السوري اللاجئ الفاقد للهوية والمهجر هو أيضا معنظز، أو ربما العنطزة مزروعة بجيناته، حيث يرى بقبول دولة اللجوء له على أراضيها مصلحة لها رغم انه لا يتقن لغتها، واندماجه بالمجتمع بطيء، ومع ذلك يشترط ويتفلسف وينظر، ويطالب بحقوق يمتلكها ابن البلد الذي يدفع الضرائب منذ سنين

العنطزة لم ولن تتوقف، فالموالين للنظام عنطزوا على أكتاف المعارضين واللاجئين، واتهموهم بالخيانة والعمالة والانتهازية، وتجاهلوا انهم بتعصبهم لأفكارهم طفشوهم خارج بلدهم، وعندما انهار الاقتصاد وعمّ الجوع صفوف الموالين، وانهار سعر صرف الليرة السورية، بدؤوا بسيل من الانتقادات للمغتربين وللسوريين المشردين، واتهموهم بأنهم غير مهتمين ببلدهم الام، وانهم حاقدين على الشعب، وطالبوهم ان ينتفضوا ضد قانون قيصر بمظاهرات عارمة، والا سيحرمون من دخول بلدهم

لا أدري حقيقية أن كان هناك مبررا لجدلية النزاع بين أهل الريف وسكان المدن، فسوريا لم ترقى لتكون حاضرة حقيقية في القرن الحديث، فحتى في المدن هناك جوع وقهر يماثل واقع الريف المهمل، والمدن السورية هي بالأساس مغلقة بسبب سياسة الدولة التي قررت اغلاق الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية والسياحية، لذا ابن مدينة دمشق أو حلب أو اللاذقية لا يرقى ثقافيا واجتماعيا لانفتاح ابن الريف الفرنسي أو الإسرائيلي أو الكوري الجنوبي، لسبب وحيد هو أن الدولة الأمنية والعسكرية في سوريا أرادت لشعبها أن يظل محدودا، وأشبعته بالشعارات الواهية، لتبرر فشلها بتطوير الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية   

بالتأكيد هناك استثناءات استطاعت التمرد وخلق شخصية منعزلة ومتمردة عما ارادته الدولة لها، ونجحت في الخارج وقدمت مثالا حضاريا، ولكن الاستثناء لا يمكن أن يكون حالة عامة، فما أراه كسوري أن اللغة الضمنية للشعب تحمل شيئا وحيدا هو العنطزة، والعنطزة لا يمكن أن تكون يوما سلوكا مدنيا، إنما هي سلوك الفاشلين والمتغطرسين

Leave a Reply

Please log in using one of these methods to post your comment:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s